وثائق بريطانية. سبقت إثيوبيا، قبل ستة عقود، مصر فى البحث عن تحالفات فى خضم خلافاتهما الممتدة بشأن مياه النيل، حسبما كشفت وثائق بريطانية.
سعت أديس أبابا فى عهد الإمبراطور هيلا سيلاسى الى "تشكيل جبهة تضم دول المنبع فى مواجهة دولتى المصب، مصر والسودان.
وتقول الوثائق التى حصلت عليها، إن إثيوبيا حاولت إقناع بريطانيا بالإنضمام الى الجبهة المأمولة غير أن لندن رفضت المسعى حرصاً على العلاقات مع مصر وخشية الإضرار بمساعى التوصل الى أرضية مشتركة فى التعامل مع النيل.
في 24 نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1961 عرض بتدريديس مستشار الحكومة الإمبراطورية الإثيوبية لشئون المياه، على السفارة البريطانية فى أديس أبابا الاقتراح.
وتقول الوثائق إن السفارة تعاملت بجدية مع عرض بتدريديس اليونانى الجنسية الذى كانت بريطانيا تعتبره الشخص الوحيد فى الحكومة الإثيوبية الذى لديه دراية تفصيلية بقضية مياه النيل.
وفى تقرير الى الخارجية فى لندن، قالت السفارة إن بتدريديس أبلغها بأنه أعد بالفعل ورقة لمجلس الوزراء والامبراطور توصى بضرورة أن تتعاون الحكومة الإثيوبية مع حكومة جلالة الملكة (البريطانية) ودول منابع النيل عموما لصياغة سياسة مشتركة.
فى هذه الفترة كانت هناك مباحثات تُجرى فى الخرطوم برعاية بريطانية، بين دول شرق أفريقيا ومصر والسودان بشأن أمور فنية متعلقة بمياه النيل. وفى هذه المباحثات كانت بريطانيا، بإعتبارها قوة مستعمرة، تتحدث بإسم دول شرق أفريقيا الثلاث كينيا وأوغندا وتنجانيقا (تنزانيا الآن) وتسعى للتوصل الى إتفاق بين هذه الدول من ناحية والسودان من ناحية أخرى بشأن مياه النيل الأبيض .
ورأت لندن فى الإقتراح الإثيوبى محاولة لإبرام إتفاقات فيما بين دول المنبع بشأن مياه النيل بعيدا عن دولتى المصب.
وثائق سرية: بريطانيا توقعت الا تتمكن مصر من إقناع إثيوبيا بتقديم تنازلات بشأن المياه
وصدرت تعليمات الى السفارة البريطانية فى أديس أبابا بأن تبلغ المستشار الإمبراطورى بأنه "من المستبعد بدرجة كبيرة أن ترغب حكومة جلالة الملكة، فى هذه المرحلة من التاريخ، فى التوصل الى إتفاقات سياسية نيابة عن أراضى شرق أفريقيا التى كانت تحت الاستعمار البريطانىي.
ووفق تقرير شامل للخارجية البريطانية عن مشكلة مياه النيل، فإن المستشار رد قائلاً إنه يقدر تماما هذا الرؤية. غير أنه قال إنه فى ضوء الإتفاق المصرى السودانى (فى عام 1959) لتبنى سياسة مشتركة بشأن مياه النيل فإنه يبدو ضرورياً أن تتعاون دول المنبع بالطريقة نفسها.
حكومة الامبراطور هيلا سيلاسى رغبت فى إنشاء جبهة من دول المنبع فى مواجهة دول المصب بناء على نصيحة من مستشارها لشئون المياه اليونانى.
ففى عام 1959، إتفقت مصر والسودان على تقسيم المياه التى تصل الى البلدين عبر النيل الأزرق، مصدر حوالى 80 فى المائة من مياه النيل، وتبلغ 84 مليار متر مكعب.
وحسب الإتفاق، الذى أيدته بريطانيا لكنها لم تكن طرفاً فيه إتفق على أن تكون حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، ويكون نصيب السودان هو 18.5 مليار متر مكعب، أما الـ 10 مليارات الباقية فتضيع فى البحر.
وقد خضع العرض الإثيوبى لدراسة متأنية شاركت فيها سفارات بريطانيا فى القاهرة والخرطوم وأديس أبابا إضافة الى السفارة البريطانية فى لبنان التى كانت تنسق مفاوضات الخرطوم.
وأعدت وزارة الخارجية البريطانية بعد البحث، مذكرة تفصيلية بشأن العرض وتأثيره ليس فقط على مباحثات الخرطوم الرامية للتوصل الى تسوية الخلافات بشأن مياه النيل، ولكن أيضاً على علاقات المملكة المتحدة مع كل من مصر والسودان. وإعتبرت بريطانيا، وفق المذكرة، أن عدم مطالبة إثيوبيا بالمشاركة فى مباحثات الخرطوم خطوة فى الإتجاه الصحيح.
إنطلقت المذكرة التى تضمنت رأى وزارة شئون المستعمرات من الموقف البريطانى الأساسى الذى يقول من غير المرجح أن تُحل مشكلة مياه النيل حتى تقبل دول الحوض (الإحدى عشرة) خطة فنية تقوم على إفتراض أن النيل وحدة هيدروليكية (مائية) واحدة.
وأجمعت الآراء على رفض العرض الإثيوبى، الذى وصف بأنه "يدعو للأسف وإن كان غير مفاجىء بتشكيل جبهة فى مواجهة مصر والسودان لأنه سوف يعقد الأمور.
وإتُفق أيضاً على إبلاغ الإثيوبيين بعبارات عامة بأن مباحثات الخرطوم أدت الى تأسيس علاقات ودية للغاية ذات طبيعة فنية غير رسمية بين دول شرق أفريقيا والمصريين والسوادنيين. لذلك، فإنه طُلب من السفارة البريطانية فى إثيوبيا بأن تبلغ بشكل غير رسمى مستشار الإمبراطور بأن على الإثيوبيين أن يراعوا أن أى محاولة لتشكيل جبهة مع دول المنبع سوف يثير شكوك المصريين مما قد يؤدى بدوره الى أن تكون أى مفاوضات مستقبلية معهم صعبة إن لم تكن مستحيلة.. ولا ضرورة لذلك.
ورغم وجاهة هذا الطرح وفق الرؤية البريطانية فإن السفارة البريطانية فى إثيوبيا نبهت الى أن إبلاغ الإثيوبيين بذلك لا يكفى لإثنائهم عن الإصرار على خطتهم. وأشارت المذكرة الى شكوك السفارة فى أن هذا الطرح (البريطانى) لن يكون له تأثير لدى الإثيوبيين لأن العلاقات بينهم وبين المصريين بالغة السوء ومن غير المرجح أن تتحسن.
وكان رأى السفارة البريطانية فى القاهرة هو أنه بتنفيذ خطتهم فى تشكيل الجبهة أو حتى بإشراكهم فى مباحثات الخرطوم لن يعقد الإثيوبيون الأمور فقط، بل سوف يجعلون أيضا أى نقاش عقلانى أمراً مستحيلاً فعلياً.
وأيدت السفارة فى إثيوبيا التقييم نفسه ما جعل الخارجية تتبنى، فى مذكرتها الرأى بأن أفكار الإثيوبيين غير معقولة ولا يمكن قبولها. وقالت إن "الإعتراضات على عرض تبنى سياسة مشتركة مع الإثيوبيين (جبهة واحدة فى مواجهة المصريين) ستكون أقل لو كانت الأفكار الإثيوبية بشأن الموضوع (مشكلة مياه النيل) معقولة.
وفى تقييمها للعرض الإثيوبى خشيت بريطانيا أيضاً على مستقبل علاقاتها مع مصر وليس فقط مع دول شرق أفريقيا التى كانت تدافع عن مصالحهم المائية.
وإنتهت مذكرة الخارجية اإلى أنه فى ظل هذه الظروف فإن أى إقتراح بتشكيل جبهة مشتركة بيننا وبين الإثيوبيين لن يقضى فقط على إحتمالات إجراء مفاوضات ناجحة مع المصريين بشأن إحتياجات (دول) شرق أفريقيا من مياه النيل، بل ستضرأيضاً بالعلاقات الانجليزية المصرية كلياً.
ورغبة فى تسوية مشكلة مياه النيل، رأت الخارجية أن يُقدًّم للإثيوبيين ثلاث نصائح: الأولى هى أن يقترحوا هم التفاوض مع المصريين والسودانيين بشأن مياه النيل الأزرق والثانية هى أن يتذكروا حساسية المصريين تجاه النيل. والنصيحة الثالثة هى إدراك الأخطار التى تنطوى على أن يبدو الأمر وكأن هناك حشداً لتشكيل جبهة ضد دول المصب.
ولفتت السفارة البريطانية فى الخرطوم النظر الى أن خطة إثيوبيا تشكيل جبهة من دول المنبع فى مواجهة دول المصب سوف تؤثر سلباً على موقف السودان الذى كان يتمتع بعلاقات ودية للغاية مع إثيوبيا.
وقالت السفارة فى تقييمها إن أى محاولة لتشكيل سياسة (جبهة) موحدة بين دول المنبع سوف يهدد بفقدان نية السودان الحسنة تجاه ما هو أبعد من مياه النيل، ومن ثم سوف تضر وفق رؤية الأمر من الخرطوم بمصالح إثيوبيا العامة.
وحسب هذا التقييم فإن الموقف البريطانى يتلخص فى أنه إذا رغبت الحكومة الإثيوبية فى الدخول فى مناقشات بشأن مياه النيل، فإن الطريق الأفضل والأوضح لذلك هو الإتصال بالسودانيين. أما إجراء هذا الإتصال فهو أمر يعود الى الإثيوبيين أنفسهم.
بعد نصف قرن بدأت إثيوبيا، فى عام 2011، بناء سد النهضة الكبير، ما فجر أزمة كبيرة بين إثيوبيا من ناحية ومصر والسودان من ناحية أخرى. ورغم مخاوفهما العميقة من تأثير السد على الحياة فيهما، وقعت مصر والسودان فى 23 مارس/آذار عام 2015 إتفاق إعلان مبادئ مع إثيوبيا. غير أن الإتفاق لم يسهم، كما كان مأمولاً، فى حل الأزمة التى تفاقمت بعد مرور أكثر من ست سنوات على توقيعه بسبب مضى إثيوبيا فى المرحلة الثانية من ملء خزان السد.
ماهى إتفاقيات مياه النيل التاريخية التي كانت بريطانيا طرفا فيها؟
1-البروتوكول الإنجليزى- الإيطالى عام 1891
إتفقت المملكة المتحدة وإيطاليا في 15 أبريل/نيسان عام 1891 على الا تنفذ الحكومة الإيطالية أية إنشاءات بغرض الرى على نهر عطبره، الذى ينبع من الهضبة الإثيوبية، من شأنها أن تغير بشكل ملموس فى معدل تدفق المياه الى نهر النيل. كانت إيطاليا فى هذا الوقت مستعمِرة للمنطقة.
2-اتفاقية أديس أبابا فى عام 1902:
وقعت الحكومة البريطانية ( نيابة عن مصر) إتفاقاً مع حكومة الحبشة ( إثيوبيا الآن) أقرت فيه الأخيرة بضرورة الحصول على موافقة مسبقة من المملكة المتحدة والحكومة السودانية قبل البدء فى أى أشغال قد تؤثر على تدفق النيل الأزرق أو نهر السوباط، وهو أحد روافد النيل الأبيض فى السودان. غير أنه رغم توقيعها، لم تصدق إثيوبيا على الإتفاق بشكل نهائى.
3-اتفاق عام 1906:
أًبرم الإتفاق بين بريطانيا ودولة الكونغو المستقلة يوم 9 مايو/آيار 1906 . والتزمت الكونغو، وفق الإتفاق بعدم إقامة أية إنشاءات على نهر سميليكى، أحد روافد النيل، أو بالقرب منه قد تقلص حجم المياه المتدفقة الى بحيرة البرت، الا بالإتفاق مع الحكومة السودانية. وبحيرة البرت واحدة من منظومة البحيرات المتشابكة فى أعالى النيل.
4-اتفاق 1925 بين لندن وروما:
تبادلت بريطانيا وإيطاليا مذكرات، أقرت بمقتضاها الحكومة الإيطالية بـ الحقوق الهيدروليكية المسبقة" لمصر والسودان. وإتفقت الدولتان على عدم إنشاء أى أشغال من المحتمل أن تغير تدفق مياه روافد النيل الإثيوبية. وتأسس الإتفاق على إتفاقية ثلاثية أخرى مبرمة عام 1906 وأقرت بمقتضاها بريطانيا بأن مساحة كبيرة من إثيوبيا تقع ضمن نطاق نفوذ إيطاليا.
5-اتفاقية 7 مايو/آيار 1929:
هى أول اتفاقية رئيسة تتعلق بإستخدام مياه النيل. وإسمها هو"تبادل مذكرات بين حكومة جلالته فى المملكة المتحدة والحكومة المصرية فيما يتعلق بإستخدام مياه نهر النيل لأغراض الرى". وعندما وقعت بريطانيا هذه الإتفاقية، كانت تنوب عن كل الأراضى الواقعة تحت إدراتها فى حوض النيل.
أهم نصوصها:
*تحديد حقوق مصر المكتسبة فى المياه بـ 48 كيلومترا مكعباً والسودان، 4 كليومترات مكعبة.
* الحفاظ لمصر على التدفق الكامل للنيل خلال الموسم الذى يقع بين 20 يناير/كانون أول حتى 15 يوليو/تموز.
*ضمان بالا تُنفذ أى أشغال على النهر أو أى من روافده من شأنها الجور على المصالح المصرية.
6- مذكرات 1959 البريطانية:
عندما أعلنت مصر فى عام 1954 عزمها إنشاء السد العالي دخلت الحكومتان المصرية والسودانية فى مفاوضات بغية توقيع إتفاق جديد بشأن إستخدام المياه. وبينما كانت المفاوضات مستمرة، أرسلت بريطانيا فى أغسطس/آب 1959، نيابة عن كينيا وأوغندا وتانجانيقا ( الجزء الأكبر من دولة تنزانيا الحالية) مذكرات الى الجمهورية العربية المتحدة (مصر) والسودان وبلجيكا (التى كانت مسيطرة على الكونغو) وإثيوبيا بشأن مياه النيل. وتنص المذكرات على الإحتفاظ بحقوق المناطق الثلاث التى تمثلها بريطانيا فى حالة إبرام إتفاق بين مصر والسودان. بإعتبارها عضواً فى عصبة الأمم (الأمم المتحدة حالياً) شكت إثيوبيا من الإتفاق البريطانى الإيطالى. ورفضت الإعتراف بحق إيطاليا فى توقيع اتفاق 1925. كما لم تعترف أديس أبابا أيضاً باتفاقية مياه النيل عام 1929 ولا بمذكرات عام 1959. ولا تزال إثيوبيا ترفض قبول مسألة الحقوق المكتسبة أو التاريخية لمصر. وفى عام 1956 أعلنت أنها سوف تحتفظ بمياه النيل فى أراضيها لإستخدامها بالطريقة التى تراها مناسبة.