كتب /أيمن بحر
ثمن سعى الغرب لترويض العملاق الصينى. من كان يعتقد أن الحرب الباردة قد ولّت وإنتهت بسقوط جدار برلين، فعليه متابعة تطورات العلاقات الأمريكية الصينية إذ يبدو أن صراع النفوذ بين العملاقين وحلفائهما قد دخل مرحلة إصطفاف جديدة تعترضها مطبات كبرى أولها إقتصادية.
يعمل الرئيس جو بايدن الى تغيير الأولويات الإستراتيجية للسياسة الخارجية الأمريكية كما ظهر ذلك بمناسبة أولى جولاته الأوروبية بتأكيده أن روسيا لم تعد منافساً مباشراً لواشنطن مصنفاً إياها كلاعب ثانوى بالمقارنة مع ما يعتبره صعوداً مقلقاً للقوة الصينية على الصعيد العالمى. بايدن يسعى مع ذلك الى وقف تدهور العلاقات الأمريكية الروسية ودرء خطر نشوب صراع نووى. وقال بايدن بعد إجتماعه مع بوتين إن روسيا تستميت كى تظل قوة كبرى. وأضاف قبل أن يستقل طائرته الرئاسية عائداً من جنيف روسيا فى وضع صعب للغاية الآن. الصين تُضيق عليها بشدة.
وقال ساخراً إن الروس لا يريدون أن يوصفوا بأنهم كما قال بعض المنتقدين كما تعرفون فولتا العليا بسلاح نووى. وكان يشير الى المستعمرة الفرنسية السابقة فى غرب أفريقيا التى غيرت إسمها الى بوركينا فاسو. نويه تسوريخه تسايتونغ (15 يونيو/ حزيران 2021) كتبت بهذا الشأن أن روسيا لم تعد منافساً إستراتيجياً مثل الصين. تحاول موسكو الإضرار بالمصالح الأمريكية فى جميع المجالات الممكنة، لكن الولايات المتحدة لا ترى فيها تهديداً لدورها كقوة عالمية.
وذهبت صحيفة تاغس آنتسايغر" (16 يونيو/ حزيران 2021) فى نفس الإتجاه معلقة بشأن إجتماع جو بايدن وفلادمير بوتين فى جنيف على عكس الصين، لم تعد الولايات المتحدة تنظر الى روسيا على أنها خصم إستراتيجى جاد، وبالتأكيد ليس كمنافس إقتصادى، ولكنها تنظر الى روسيا كعامل تخريبى. وهى تسعى الى بناء علاقة مستقرة معها يمكن التنبؤ بمسارها كما يقال فى واشنطن.
وهذا معناه أن على روسيا التوقف عن إثارة المشاكل (...) حتى لو لم تعد تشكل تهديداً وجودياً من وجهة نظر واشنطن، فإن هذا لا يغير حقيقة أن موسكو لا تزال تُعتبر خصماً سياسياً وربما أيضاً عسكرياً. وهذه الإشارات الخاطئة فى جنيف يمكن أن تؤدى الى سوء فهم خطير. هناك ما يكفى من بؤر الصراع فى أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى حيث يتواجه الروس والأمريكيون بشكل خطير وحيث التصعيد وارد دائماً.
قال أعضاء حلف شمال الأطلسى فى بيان (14 يونيو/حزيران) إن طموحات الصين المعلنة وسلوكها المتواصل تشكّل تحدّيات لأسس النظام الدولى المستند الى قواعد، وفى مجالات لها أهميتها بالنسبة الى أمن الحلف. غير أن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أكد فى الوقت ذاته أنّ الصين ليست خصمنا أو عدوّنا. لكن علينا أن نواجه التحديات التى تطرحها الصين على أمننا (..) نلاحظ أن روسيا والصين تتعاونان بشكل متزايد فى الآونة الأخيرة سواء على الصعيد السياسى أو على الصعيد العسكرى. وهذا يمثل بعداً جديداً وتحدياً جدياً للحلف الأطلسى.
صحيفة يونغه فيلت اليسارية (16 يونيو/حزيران) إنتقدت التوجه الجديد للسياسية الأمريكية وكتبت لا يمكن للأمر أن يكون غير ذلك "أمريكا أولاً" ليس شعار تحتكره الأوليغارشية الرجعية فقط، وإنما هو شعار قوة عظمى تحاول وقف إندحارها إذ قال بايدن قبل بضعة أيام نحن فى منافسة من أجل النصر فى القرن الحادى والعشرين وقد تم بالفعل إطلاق الشرارة الأولى (لهذه المنافسة) (..) إن التنافس المتصاعد على النفوذ العالمى لا يترك مجالاً لتقديم تنازلات لحلفاء الولايات المتحدة. تأثر المصالح الأمريكية ولو بشكل طفيف (..) الوحدة موجودة فقط على شكل تحالف مفتوح ضد الصين، وبشروط القوة العظمى التى بدأت فى التراجع. هذا هو أساس التحالف عبر الأطلسى اليوم.
رد فعل بكين لم يتأخر، إذ سارعت الى إتهام دول حلف شمال الأطلسى بنهج عقلية الحرب الباردة وسياسة التكتل على حد تعبير البعثة الصينية لدى الإتحاد الأوروبى فى بروكسل. وأضافت أن الصين ملتزمة بسياسة عسكرية، ذات طبيعة دفاعية. وسعينا للتحديث الدفاعى والعسكرى مبرر ومعقول ومنفتح وشفاف.
ودعت دول الحلف الى التوقف عن المبالغة فى نظريةالتهديد الصينى.
من جهتها أعربت وزارة الخارجية فى بكين عن عدم فهمها، وإتهمت حلف الناتو بتطبيق معايير مزدوجة" من حيث مطالبة الدول الأعضاء فى الحلف زيادة إنفاقها العسكرى. ومع ذلك أشارت الخارجية الى أن الصين تتعرض لإنتقادات بسبب إنفاقها العسكرى الذى لا تتجاوز قيمته 1.3 بالمائة من إجمالى ناتجها المحلى. وأضافت أن الصين لا تمثل تحدياً ممنهجاً لأحد، الا أنها مصممة على حماية سيادتها وأمنها ومصالحها التنموية.
فرانكفورته الغماينه تسايتونغ (16 يونيو/حزيران) لخصت مقال رأى نشر فى صحيفة بكين نيوز التابعة للحزب الشيوعى الصينى. وكتبت الصحيفة الألمانية أن أجهزة الدعاية الصينية رافقت رحلة جو بايدن الى أوروبا برسالة باتت معروفة الآن، تتعلق بإندحار مزعوم للغرب وصعود الشرق. وفى مقال رأى فى الصحيفة الصينية وصف عالم إجتماع صينى بارز مجموعة دول السبع على أنها غسق سقوط القوة الغربية.
مع إستمرار توسع مبادرة طريق الحرير والتنامى المطرد للقدرات الإقتصادية والعسكرية والدبلوماسية للصين، فإن التصادم مع القوة الأمريكية، مبرمج بالضرورة فى عدد من الجبهات فى العالم. ومن كان يعتقد أن الحرب التجارية التى أعلنها دونالد ترامب مجرد نزوة رئيس متقلب المزاج فهو واهم. فقد بات صناع القرار فى الولايات لمتحدة على وعى تام بالتحدى الإستراتيجى الذى تشكله القوة الصينية بالنسبة للهيمنة الغربية على العالم.
وفى هذا الصراع ستحتاج الولايات المتحدة الى شبكة قوية من الحلفاء والشركاء للمساعدة فى توفير التوازن مع صعود بكين، كما كان عليه الأمر إبان الحرب الباردة مع المعسكر السوفييتى. وبات الغرب يرى أن الصين تعمل على إعادة تشكيل النظام العالمى بأسلوب من شأنه الحاق الضرر بالمصالح الحيوية للقوى الغربية، قد يعزز نموذج الدولة المستبدة ويضر بالديموقراطيات ودورها فى العالم.
وكما فى الحرب الباردة ضد المعسكر الشيوعى تبدو الكتلة الأوروبية سواء من حيث ثقلها البشرى والعسكرى والسياسى الحليف الأقرب الذى يتقاسم مع الولايات المتحدة نفس القيم، فى وقت تسعى فيه الصين بدورها لبناء تكتل إجتذبت اليه روسيا وإيران. على المستوى العسكرى تحول بحر الصين الجنوبى الى ساحة مواجهة بين واشنطن وبكين، حيث تدعى الأخيرة سيادتها البحرية عليه.
وقد تعهدت المانيا وفرنسا بدعم الأمريكيين لضمان حرية الملاحة البحرية هناك. كما تعمل واشنطن على دعم حلفائها فى المنطقة (أستراليا والهند واليابان). أما على الصعيد الإقتصادى، فالعنصر الأساسى للتحالف الأمريكى الأوروبى فى مواجهة الصين يرتبط بمدى قدرة كل من الولايات المتحدة وأوروبا على تنسيق مواقفهما بشأن التجارة والتكنولوجيا.
إتفق الرؤساء الأمريكيون على تقسيم العالم الى خير وشر حسب المصالح العليا لبلدهم فجورج بوش الإبن كان يتحدث عن محور الشر كانت إيران وكوريا الشمالية ركناه الأساسيان، فيما فضل دونالد ترامب مقولة أمريكا أولاً وها هو جو بايدن يؤسس لحرب باردة جديدة تلعب فيها الصين دور العدو الإستراتيجى حيث رسم ملامح عالم يقوم على منافسة منهجية بين القوى الغربية الحليفة وجمهورية الصين الأوتوقراطية تحت شعار أمريكا عادت.. ورغم أن بايدن، وخلافاً لسلفه ترامب يرى فى الأوروبيين حلفاء وليس منافسين، فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو: هل من مصلحة المانياوأوروبا الدخول فى حرب إقتصادية ضد الصين؟ فإذا كانت أوروبا تتقاسم قيماً مشتركة مع الحليف الأمريكى، فإن مصالحهما الإقتصادية مختلفة أحياناً حينما يتعلق الأمر بالصين.
وبهذا الصدد كتب موقع شبيغل أونلاين (12 يونيو/حزيران) يظهر الحساب الجارى للولايات المتحدة الأمريكية مع الجمهورية الشعبية عجزاً كبيراً، فى حين أن الحسابات الجارية لأوروبا والمانيا متوازنة أو إيجابية. ينظر الأمريكيون الى الصين باعتبإرها منافساً عسكرياً وتكنولوجىً وبالنسبة للأوروبيين فإن الصين تمثل سوق نمو ضخم بالنسبة لشركات الهندسة الميكانيكية والكيميائية والسيارات حقيقة تبدو أكثر جلاء فى زمن ما بعد كورونا.
أولئك الذين يسعون لعزل بكين إقتصادياً رغم هذه الحقائق، كما يخطط البعض فى الولايات المتحدة يتحدثون عن صراع تجارى يجب على برلين وبروكسل على وجه الخصوص خوضه. وفى هذا السياق دعت المستشارة أنغيلا ميركل حلفاءها فى ناتو الى الحفاظ على التوازن فيما يتعلق بتعامله مع الصين فى سعيه لمواجهة تنامى القوة العسكرية لبكين رغم أنها أكدت بدورها أن التعامل مع روسيا والصعود الصينى ومنطقة المحيطين الهندى والهادى تمثل التحديات المركزية التى تواجه الناتو.
الرواية الأكثر تداولاً بشأن نهوض العملاق الصينى تعود الى عام 1978حينما أطلق الزعيم الصينى الراحل دينغ شياو بينغ حزمة إصلاحات إقتصادية شاملة فتحت العلاقات التجارية والإستثمارية مع الدول الرأسمالية. وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) أوردت مقابلة مع المؤرخ جيسون إم كيلى (14 يونيو/ حزيران) إستندت فيه لحوار أجرته مع وكالة بلومبرغ الأمريكية بشأن كتابه الجديد الذى يحمل عنوان ماويو السوق أكد فيه أن جذور إنفتاح الشيوعيين الصينيين على إقتصاد السوق أقدم بكثير من عام 1978. وأوضح كيلى أن الحزب الشيوعى الصينى ظل يتاجر مع القوى الرأسمالية لعقود أطول مما يتخيله كثيرون مضيفاً غالباً ما ننسى أن الكثير من المفاهيم والأفكار التى تشكل السياسة التجارية الصينية اليوم لها جذور تعود الى حقبة ماو. فعلى سبيل المثال، مفهوم المساواة والمنفعة المتبادلة" ظهر كجزء من موقف الحزب الشيوعى الصينى المناهض للإمبريالية فيما يتعلق بالتجارة الخارجية فى مطلع فترة الحرب الباردة. وهو مرتبط بمفهوم نهوض الصين فى ظل حكم الحزب الشيوعى.
وقد إستخدم كبير المفاوضين التجاريين فى الصين ونائب رئيس الوزراء ليو هى، ذلك التعبير مؤخراً أثناء محادثاته مع وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين. ويوضح كيلى أن معرفة الأصول التاريخية للعبارات والمفاهيم من هذا القبيل، يمكن أن تساعد المرء على تقدير الموروثات التى كان من الممكن أن يغفل عنها لولا ذلك.
وعن صراع بكين ضد الحظر التجارى الذى فرضته الولايات المتحدة عليها بعد الحرب الكورية وهو الامر الذى يبدو أنه له بعض أوجه التشابه الواضحة مع العقوبات الأمريكية والتوترات التجارية بين الصين والقوى الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
وأوضح كيلى كيفية تأثير المشاعر الوطنية والأفكار القومية على سياسة الصين التجارية قائلاً فى ربيع عام 1958، أوقف القادة فى بكين جميع أنواع التجارة مع اليابان، وذلك بعد سلسلة من الخلافات بشأن قضايا سياسية، تتضمن واقعة شهيرة تم خلالها تمزيق العلم الصينى أثناء إقامة معرض فى أحد المتاجر بناكازاكى.
قامت وزارة التجارة الأمريكية بتحديث لقائمة الشركات الصينية التى تعمل فى مجال الصناعات الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر فائقة القوة وضمتها الى قائمة الكيانات الصينية المحظور تصدير المنتجات الأمريكية اليها، بدعوى أن أنشطة هذه الشركات تمثل تهديداً للأمن القومى الأمريكى أو مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويحظر أى تعامل مع هذه الشركات دون الحصول على ترخيص من الحكومة الأمريكية.
وتعتبر الإدارة الأمريكية أن تلك الشركات الصينية تساهم فى تطوير قدرات الجيش الصينى أو فى تطوير أسلحة الدمار الشامل. وأكدت وزارة التجارة الأمريكية أنها ستستخدم كل ما لديها من صلاحيات لمنع الصين من إستغلال التكنولوجيا الأمريكية لدعم جهودها للتحديث العسكرى التي تثير الإضطرابات.
ويذكر أن البيت الأبيض أقر فى (أبريل / نيسان 2021) حزمة إستثمارات فى البنية التحتية التى إقترحها الرئيس جو بايدن والبالغة تريليونى دولار تتضمن 50 مليار دولار لإنتاج وبحوث الرقائق الإلكترونية الذى تعتبره واشنطن قطاعاً إستراتيجياً للحفاظ على سبقها التكنولوجى.
شبيغل أونلاين (10 يونيو/ حزيران) ربطت بين البعدين التكنولوجى والعسكرى فى الإستراتيجية الأمريكية ضد الصين على ضوء الأمر التوجيهى الذى أصدره وزير الدفاع الأميركى لويد أوستن الى البنتاغون طالبهم فيه بتكثيف تركيزهم على الصين. وقال أوستن إن المبادرات التى أطرحها اليوم متداخلة ضمن المقاربة الأكبر للحكومة الأميركية تجاه الصين وسوف تساعد فى تطوير إستراتيجية الدفاع الوطنى التى نعمل عليها.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق